ما أحوج الدعاة إلى التأمل في مجالات الدعوة ، ووسائل مخاطبة الجماهير ، والسعي
إلى توسيع دائرة المخاطبة ، والتحدث للجميع وإسماع رسالتهم للكل . إن مراجعة
الدعاة لوسائلهم الدعوية ، وأساليبهم مطلب ملحّ ، وواجب تمليه ضرورة الدعوة
ذاتها .
وإن من الوسائل التي يمكن للدعاة أن يخاطبوا فيها الجميع ، ويبلغوا رسالتهم
للناس كافة ، (خطبة الجمعة) فأي قدر حظي به هذا المنبر ، وهذه الوسيلة من
الدراسة ، والعناية ، فضلاً عن التوظيف العملي لهذه الوسيلة .
وهذه محاولة لوضع إضاءات ، وإشارات حول هذا الموضوع الملحّ .
أولاً : أهمية خطبة الجمعة
:
1-
الأمر بالسعي لها ، فإن المسلم مأمور بالسعي لصلاة الجمعة حين يسمع النداء ،
ويحرم عليه أن ينشغل ببيع أو نحوه . قال تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ
اللَّهِ وذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [
[الجمعة 9] . وهو في الوقت نفسه يحض على التبكير إليها كما قال - صلى الله عليه
وسلم - : ( مَثَلُ المهجر [1] كمثل الذي يهدي بدنه ، ثم كالذي يهدي بقرة ، ثم
كالذي يهدي الكبش ، ثم كالذي يهدي الدجاجة ، ثم كالذي يهدي البيضة ) [2] .
ويؤمر بالتهيؤ النفسي لها فيؤمر بالتطيب والاغتسال والسواك .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من جاء منكم الجمعة فليغتسل ) [3] .
2-
وحين يحضر المصلي للجمعة يلزمه الإنصات للخطيب ولا يجوز له الكلام ولو أن يقول
لصاحبه صه . ( إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة :
أنصت فقد لغوت ) [4] . فهذا المصلي الذي أوجب عليه السعي للجمعة ، وحُث على
التبكير لها ، والتغسل والتطيب ، وحُرّم عليه الكلام حال الخطبة ، من حقه أن
يعتني بهذه الخطبة التي تقدم له .
3-
خطبة الجمعة لها شأن عظيم عند الله -عز وجل- فهي ذكر لله كما سماها الله في
كتابه ، وهي شعيرة من شعائر الدين ، تشهدها الملائكة ، كما قال -صلى الله عليه
وسلم- : ( إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون من
جاء من الناس على قدر منازلهم ، فرجل قدم جزوراً ، ورجل قدم بقرة ، ورجل قدم
شاة ، ورجل قدم دجاجة ، ورجل قدم عصفورا ، ورجل قدم بيضة ، فإذا أذَّن المؤذن ،
وجلس الإمام على المنبر طووا الصحف ودخلوا المسجد يستمعون الذكر ) [5] .
إن هذا الحديث يلقي ظلالاًً من الهيبة والجلال على هذه الخطبة ، وفي الوقت نفسه
يعطي الخطيب شعوراً بأهمية الكلمة التي يقولها من على المنبر فعلاوة على كل ما
فيها من قيمة دعوية ، فإن الملائكة الكرام يسمعونها ، فليت الذين يوظفون خطبهم
لتحقيق مصالح فلان أو علان يفقهون هذا الحديث .
4-
شهود المسلمين جميعهم لها . فالمسلمون على اختلاف طبقاتهم ، ومستوياتهم
التعليمية ، يحضرون هذه الصلاة ويشهدونها . فيحضرها المثقف ، والجاهل وطالب
العلم ، والمتعلم . ويحضرها الكبير والصغير ، ومن جانب آخر فحضورها ليس مقصوراً
على الأخيار وحدهم ، فكثير ممن لا يشهد صلاة الجماعة يحضر الجمعة ، وهذا يتيح
للخطيب أن يخاطب الجميع ، وأن يتحدث للكثير ممن لا يحضرون المحاضرات والندوات ،
ودروس المساجد . إنها باختصار هي المجال الوحيد المتاح للدعاة والذي من خلاله
يتحدثون مع الجميع .
5-
تكررها كل أسبوع . ففي العام الواحد يستمع المصلي لـ (52) خطبة ، وحين يعتني
بها الخطيب ويرتب موضوعاتها يقدم للمستمع مادة متكاملة . إنها تمثل دورة مكثفة
مستمرة .
6-
قيمتها المعنوية عند الناس وتأثيرها ، ففي بحث عن أثر خطبة الجمعة أجري في مصر
أفاد 78% أنهم يتأثرون تأثراً دائماً بما يقوله الخطيب ، وذكر 71 % أنهم
يلتزمون دائماً بما يقوله الخطيب . واتفق مع أحد خطباء المساجد على أن يخطب عن
الربا ، فأجرى استفتاء قبل الخطبة وبعدها ، كانت النتيجة :
أ-
85% كانوا يعرفون المفهوم الصحيح للربا . وبعد الخطبة ارتفعت النسبة إلى 97% .
ب-
33% كانوا يعرفون عقوبة المرابي . وبعد الخطبة ارتفعت النسبة إلى 59% .
ج-
71% كانوا يعلمون أن البنوك المصرية تتعامل بالربا . وبعدها ارتفعت النسبة إلى
94% .
د-
50% كان يفضل الاستثمار في البنوك الإسلامية . وبعد الخطبة ارتفعت النسبة إلى
64% .
هـ-
نتيجة الخطبة : 34% سينصحون الآخرين بترك الربا . 31% سيقاومون أي عمل ربوي [6]
.
إن هذه الدراسة وغيرها تعطي دلالة صادقة أن خطبة الجمعة لها تأثيرها على
المصلين ، وذلك حين يجدون الخطيب المؤثر .
7-
حضورها يزيد ولا ينقص . فالمصلون لا يخرج
منهم أحد قبل انتهاء الخطبة ، إنما يتوافدون ، بخلاف المحاضرة والدرس ، فقد
يخرج بعضهم قبل اكتمال الموضوع . ومع اقبال الناس على الخير في هذه الفترة ،
يتوافد الكثير من المسلمين إلى الجمعة ممن كانوا لا يعرفونها قبل ذلك .
8- ثباتها في كافة الأحوال ، فهي مستمرة في السلم والحرب ، وفي القحط والجدب ،
وفي سائر الظروف .
ومع ذلك كله رغم مدى عنايتنا بهذا المنبر ، وشعورنا بأهميته ، والحرص على أن
يصعده الدعاة الصادقون ، وطلبة العلم الواعون ؟
والخطباء أنفسهم أمام مدى إدراكهم لهذه الرسالة وقيمتها وأهميتها ؟ أليست خطبة
الجمعة تستحق منا عناية ودراسة لاستثمارها ، وأساليب تطويرها ؟ ولم لا تتلقى
المراكز والمؤسسات الإسلامية دورات وبرامج لإعداد الخطباء وتدريبهم ، والرفع من
مستواهم ؟ إنها تساؤلات آمل أن تلقى عناية إخواننا .
ثانياً : الموضوع :
1-
أن يختار الموضوع في وقت مبكر ، فإن تأخير اختيار الموضوع ، إلى ليلة الجمعة
وربما يومها ، يؤدي بالخطيب ، إلى أن يقرر أي موضوع يخطر في باله ، وربما لا
يكون مقتنعاً به القناعة التامة ، إضافة إلى أنه لا يترك له فرصة كافية للتحضير
والتفكير في عناصر الموضوع ومحاوره . ويعاني الكثير من الخطباء من هَمِّ اختيار
الموضوع ، فيُقترح إعداد قائمة متنوعة من الموضوعات ، يختار بعد ذلك من بينها .
2-
التفكير الجيد في الموضوع بل وطول التفكير فيه - وهذا يستوجب الاختيار المبكر
له - يقول ( دايل كارنيجي ) في كتابه (فن الخطابة) : ( حدد موضوعك مسبقاً حتى
يتسنى لك الوقت للتفكير به مراراً . فكر به طيلة سبعة أيام ، واحلم به طيلة
سبعة ليال ، فكر به أثناء خلودك إلى الراحة ، وفي الصباح وأنت تستحم ، وفي
طريقك إلى المدينة ، أو بينما تنتظر المصعد ، وعندما تكوي الثياب ، أو حين تطهو
الطعام ، وناقشه مع أصدقائك واجعله موضوع حديثك ، واسأل نفسك جميع الأسئلة
الممكنة التي تتعلق به ) [7] .
3-
أن يكون الموضوع عن قناعة لا تمليها ضغوط الشارع ، أو المناسبة ، أو جهة معينة
. مع الترفع عن الإثارة العاطفية .
4-
التنويع في الموضوعات والمجالات وعدم التركيز على جانب واحد .
فينبغي أن تشتمل موضوعات الخطيب الحديث عن مشاكل الناس الاجتماعية ، وحلولها ،
وعلى بيان واقع الأمة ، والمؤامرات عليها ، وعلى الحديث عن الأخطاء المتفشية
بين الناس ، وعلى بيان العقيدة وتعليمها للناس ، وعلى بيان ما يحتاجه الناس من
أحكام عباداتهم ومعاملاتهم ، وعن الرقائق والوعظ ، وتذكير الناس ؛ وباختصار
ينبغي أن تشمل على كل ما يحتاج المسلم أن يعرفه في شؤون حياته .
وقد تجد البعض من الخطباء يركز على جانب الوعظ دون سواه ، والآخر على الجانب
السياسي ، والثالث على الجوانب الاجتماعية .. وهكذا .
إن هناك فئة غير قليلة من المسلمين لا يتلقون العلم إلا من خلال خطبة الجمعة ،
وإن تحقيق التكامل والتنوع في موضوعات الخطبة يهيئ لهؤلاء حَدّاً أدنى من
الثقافة الشرعية .
5-
التحضير الجيد والمتكامل للموضوع ، من خلال القراءة والاطلاع على ما كتب في
الموضوع حديثاً وقديماً ، وإن ترتيب الخطيب لملفاته وأوراقه ، وتدوين ما يمر
بباله من عناوين لكتب ، أو مقالات ، أو موضوعات ، أو تقارير مما يعينه على ذلك
. إن المنبر أمانة ، والمصلون ينتظرون أن يسمعوا الجديد من الخطيب ، ومهما كانت
ثقافة الخطيب وإطلاعه ، فإنه لا يستغني عن المراجعة والإعداد ، والترتيب
لموضوعه ، ومن الظلم للمصلين ، وإهمال الأمانة ، أن يحدد الخطيب موضوعه متأخراً
، ولا يعد له فيجيء مهلهلاً متنافراً .
وفي حادثة السقيفة المشهورة قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - (فزورت في نفسي
مقالة ) . قال البعيث الشاعر - وكان من أخطب الناس - : (إني والله وما أرسل
الكلام قضيباً خشيباً ، وما أريد أن أخطب يوم المحفل إلا بالهائت المحكك ) .
وكان ابن النوام الرقاشي إذا دُعي للكلام ولم يكن مهيئاً نفسه يقول : ( ما
اشتهي الخبز إلا بائتاً ) .
6-
أن يكون الموضوع حول واقع الناس ، وما يحتاجون إليه ؛ فالعالم الإسلامي اليوم
يموج بأحداث ساخنة ، ومضطربة ، والعقل المسلم يعاني من تحليلات الإعلام المضلل
الذي يصور القضايا وفق ما يريد فلان ، أو غيره ؟ ولذا فإن المصلي ينتظر أن يسمع
الكلمة الصادقة ، وعرض القضية من هذا الخطيب الذي يثق فيما يقول لأنه يعرف أنه
يدرك أمانة الكلمة ، ومسؤليتها .
وثمة طائفة من المسلمين لا تتفاعل مع قضايا الساحة ، ولا تُعيرها أي اهتمام ،
فلها شأن آخر مع شهوات النفس ورغباتها ؛ وهذه الفئة تحتاج لمن يغرس فيها
التفاعل مع قضايا المسلمين ، والاهتمام بها ، وأقرب الناس ، وأقدرهم على ذلك هو
خطيب الجمعة . ومن الجوانب التي تمسّ الناس ، ما قد يحصل من قضايا ، وإشاعات ،
وأخبار أو ظواهر متفشية ، إلى غير ذلك مما يخصّ بلداً معيناً ، فينبغي للخطيب
أن تكون له فيه كلمته .
وحين يتحدث الخطيب عن هذه القضايا ، لا ينبغي أن يفرط في التحليلات السياسية ،
والاجتهادات الخاصة ، والتي هي عرضة للخطأ والصواب ، إنما يركز على بيان وجه
القضية ، والأخبار الصادقة عنها ، والمنهج الشرعي في التعامل معها .
7-
مناسبة الموضوع المصلين ، فالمسجد الذي يؤمه كثير من غير أهل البلد قد لا يناسب
التحدث فيه عن مشاكل اجتماعية خاصة بهذا البلد ، والمسجد الذي أكثريته من
الطلاب غير المتزوجين ليس من الحكمة أن يتحدث الخطيب فيه عن المشاكل الزوجية ،
ومسجد القرية والبادية لا يستحسن الحديث فيه عن قضايا تخص النخبة المثقفة .
فعلى الخطيب أن يدرك طبيعة المصلين ، وتركيبتهم ، ويختار لهم ما يناسبهم ، وما
يحتاجون إليه .
8-
العمق العلمي في الموضوع ، فلا يكفي أن يقتصر الموضوع على عبارات إنشائية ، أو
خواطر وأفكار شخصية ، وإن العناية بالاستشهاد بالنصوص الشرعية ، وأقوال أهل
العلم ، والعناية بالتأصيل العلمي للموضوع يعطي المستمع الثقة ، والقناعة بما
يطرح .
9-
دقة المعلومات والتأكد من صحتها ومن ذلك :
أ- الأحكام الشرعية : ببحثها بحثاً دقيقاً وتأصيلها .
ب- الأحاديث النبوية : وذلك بالتأكد من صحتها وثبوتها ؛ لذا فعلى الخطيب أن
يتعرف على طريقة التعامل مع كتب الحديث ليتسنى له الوقوف على ما قاله أهل العلم
في درجة أي حديث يود الاستشهاد به .
ج- الإخبار : فلا يليق بالخطيب أن يتلقف أية إشاعة ، أو خبر ليكون مادة لخطبته
، بل يثبت ويتبين .
د- القضايا العلمية والمتخصصة : قد يتطرق الخطيب للحديث عن بعض الجوانب الطبية
، أو التخصصية في أي فن ؛ وحين يتحدث الرجل بغير فنه يأتي بالعجائب ، فعليه أن
يتأكد من صحة المعلومات ، فقد يكون ضمن المصلين أحد المختصين بما يتحدث عنه ،
فيسمع الغرائب .
10-
مناسبة الموضوع للمقام والزمن : فقد خطب أحد الخفاء ، في إحدى عواصم الدول
الإسلامية عن ليلة القدر يوم الثلاثين من رمضان ؛ وليس هناك أمل بإدراك هذه
الليلة . أو يكون هناك حدث يعني الأمة كلها ، وينتظر المصلون الخطبة ليستمعون
رأي خطيبهم في ذلك ، فيفاجؤون به يتحدث عن قضية اجتماعية ، أو قضية لا تمت بصلة
لما هم فيه .
11-
الوحدة الموضوعية ، فلا يسوغ أن تكون الخطبة خليطاً متنافراً من القضايا
والموضوعات ، ومليئة بالاستطرادات المناسبة وغير المناسبة .
12-
تناسق الأفكار وتسلسلها .
ثالثاً : الأسلوب :
1-
حسن الأسلوب وجودته فالألفاظ قوالب المعاني .
2-
وحسن الأسلوب وجودته لا يعني أن يتكلف الخطيب فيقع فيما نُهي عنه ] قُلْ مَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ومَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ [ [ص 86]
. وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن التكلف ، والتفاصح صفة مذمومة يبغضها الله
-عز وجل- فقال : ( إن الله يبغض البيلغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل
البقرة بلسانها ) [8]. وقال أيضاً : (هلك المتنطعون)[9] قال ابن الأثير :
التنطع في الكلام : التعمق فيه والتفاصح [10] . ومن ذلك قول أحدهم : ( لقد فاحت
رائحة الشمس ، فعطرت وجنات القلوب ، وتركت قطرات الندى الإيماني الأبيض على
شفاه الخفقات الدافئة في الصدور ) .
3-
الاعتماد على الحجج العلمية المنطقية ، وعدم إلقاء النتائج مباشرة . فإن الخطيب
لم يعد المتعلم الوحيد ولا فريد عصره ، أو نسيج دهره .
4-
تجنب النقد اللاذع والعبارات الجارحة ، والتركيز على الأخطاء ، والحكمة في
معالجة الخطأ .
5-
الاعتدال وعدم المبالغة . خَطَبَ أحد الخطباء عن الفتيات وخروجهن ليلاً ، وطالب
الآباء أن يقوم أحدهم منتصف الليل ليتأكد من وجود ابنته على سريرها ؛ فخرج
المصلون وهم يمقتون مثل هذه المبالغة . ونموذج آخر ذكره الشيخ عبد اللطيف
السبكي في مجلة الأزهر [11] وذلك أن خطيباً خطب في جامع الأزهر عن حديث " واتبع
السيئة الحسنة تمحها " فهَوَّن أمر المعصية ، وأن الله فطر الناس عليها وقال
بالحرف الواحد : ( إن الله لم يقل للناس لا تسيئوا ، ولكن قال إذا أسأتم
فاستغفروا ) . إنه لا يسوغ أن تمتلك الخطيب عاطفته الجياشة فيتحدث بمبالغة دون
اعتدال أو إنصاف ؛ بل إن المبالغة تؤدي إلى نتائج معاكسة .
رابعاً : الأداء :
1-
الصوت : فينبغي العناية بوضوح الصوت والتأكد من الأجهزة التي تنقل الصوت ،
إضافة إلى التحكم في صوته هو ، ورفعه وخفضه في المكان المناسب ، وأن يعتني
بسلامة إخراج الحروف .
2-
تصوير المعاني بالنطق ، ففي حالة الاستفهام ينتظر الجواب ، وهكذا في حالة
التعجب .
3-
حسن الوقوف ، فيراعي المعاني وتمامها عند وقوفه .
4-
الحماسة ، والعاطفة الحية التي يشعر المصلي من خلالها أن الخطيب يحمل الفكرة في
عروقه ودمائه ، وليست مجرد كلمات هامدة ، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا
خطب علا صوته ، واحمر وجهه كأنه منذر جيش يقول : صبحكم ومساكم .
5-
رباطة الجأش ، والتعود على ذلك .
6-
سلامة اللغة وعدم اللحن ، وقد كان السلف يعتنون باللغة وسلامتها ، وكان اللحن
مما يعاب به على المرء فضلاً عن طالب العلم ، وليس ثمة ما يعيب الخطيب ، أو
ينقص من قدره ، أن يدرس مبادئ النحو ، أو يبحث عمن يقرأ عليه فيصحح قراءته .
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- : " تعلموا الفرائض واللحن اللغة والنحو
فإنه من دينكم " . ويمكن أن يلجأ إلى حل مرحلي بأن يشكل الكلمات التي يرى أنه
عرضة لأن يخطئ بها .
خامساً : بين الارتجال والخطبة من ورقة :
أولاً : نود الإشارة إلى أن هنالك فرقاً بين الارتجال في المصطلح المعاصر ،
وعند العرب ، فهو لدى العرب الخطبة من غير إعداد واستعداد ، ولم يكونوا يعرفون
الخطبة من الورقة أصلاً ؟ أما في المصطلح المعاصر فيقصد به الخطبة دون ورقة ،
ولو أعد الخطيب لتلك الخطبة .
فالارتجال بمعناه عند العرب لا ينبغي أن يسلكه الخطيب فيصعد المنبر ، ويفكر في
موضوع الخطبة أثناء الآذان ، أو يفكر وهو في الطريق إلى المسجد ، ومهما علت
مكانة الخطيب ، واتسع علمه ، فلا يستغني عن الإعداد والتحضير المسبق ، لكن ما
يكثر عنه السؤال ، ويدور حوله النقاش ، أيهما أولى : أن يخطب الخطيب من ورقة ،
أو من دون ورقة مع التحضير والإعداد المسبق . والموضوع يحتاج لتفصيل تضيق عنه
هذه المقالة لكننا نسجل بعض الملحوظات :
1-
الناس يختلفون ويتفاوتون في ذلك .
أ- فبعضهم يحتاج للورقة لتضبط ألفاظه ، فلا يشطح ، ويقول ما يُحسب عليه ، أو
تضبط له موضوعه فلا يتشتت به الحديث يمنة ويسرى ، وينسى موضوعه ، أو يضبط له
وقته فلا يطيل على الناس .
ب- والبعض يحتاج لرؤوس الأقلام ، والنصوص .
ج- والبعض لا يحتاج لذلك ، ويستطيع أن يستوعب موضوعه ، ويضبط ألفاظه ، ووقته .
فإذا كان كذلك فهذا أدعى للتأثير على الجمهور وجلب انتباههم .
2-
من لا يجيد الارتجال يستطيع التعود ، بالتدرج ؛ وأفصح الناس قد ولدته أمه وهو
لا يجيد النطق بحرف واحد .
3-
ليس بالضرورة أن يجعل الخطيب الخطبة دون
ورقة هدفاً له ، فقد يخطب من خلالها ، ويفيد الناس ، ويحقق المقصود .
سادساً : بين الإيجاز والتطويل :
الإيجاز هو السنة . روى مسلم في صحيحه عن أبي وائل قال خطبنا عمار فأوجز وأبلغ
، فلما نزل ، قلنا يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت فلو كنت تنفست ، فقال إني
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته
مَئنة من فقهه ، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة وإن من البيان سحراً " .
وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال : ( كنت أصلي مع رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فكانت صلاته قصداً ، وخطبته قصداً ) .
وقال أبو بكر -رضي الله عنه- ليزيد بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - حين أمّره
على جيش إلى الشام : " وإذا وعظتهم فأوجز فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضاً " .
وها نحن نرى في عصرنا من يطيل الخطبة حتى يُملَّ الناس . ذكر اللواء محمود شيت
خطاب أنه صلى مع خطيب في القاهرة استمرت خطبته ساعة وعشر دقائق ، مع اللحن
والخطأ في الآيات ، والأحاديث ، والشعر [12] .
الإيجاز والتطويل نسبي وقد يتطلب الموضوع أحياناً قدراً من الإطالة ، أو طبيعة
المستمعين . أو من الخطيب ؛ كأن يفد غريب وهو ممن يحب الناس سماع كلامه ؛ فمثل
هذه المواقف قد تسوغ فيها الإطالة ويبقى بعد ذلك الإيجاز هو الأصل ، فالإيجاز
يزيد مسؤولية الخطيب ؛ إذ سيحتاج لعرض جملة من الحقائق والمعلومات في وقت يسير
. وليس صحيحاً أن التحضير يتناسب طردياً مع وقت الخطبة .
سابعاً : أمور لابد من اجتنابها :
أ-
التركيز على سلبيات المصلين ، والحديث عن أخطائهم ، أو استعمال ضمير المخاطب
كثيراً ، وهذا مثل الطبيب الذي يحدث المريض عن مرضه ويبالغ في وصفه وخطورته ؛
إن التركيز على مثل هذا الأسلوب من شأنه أن يحطِّم كل جوانب الأمل لدى المصلي ،
مما يجعله يشعر أنه لا يمثل إلا مجموعة من الأخطاء والعيوب ، ومع كثرة النقد
وبيان الأخطاء يتلبد إحساسه ؛ فيشعر أن الخطأ أمر طبيعي لا يمكن أن يفارقه . أو
أن يشعر أن هذا الخطيب لا ينظر إلا بعين واحدة ، فينصرف عن سماع ما يقول .
إن الخطيب الناجح يستطيع أن يحقق المقصود ، ويعالج الخطأ دون حاجة للانتقاد
المباشر للناس ، فحين يتحدث عن إهمال الناس لصلاة الجماعة مثلاً ؛ بإمكانه
بدلاً من النقد اللاذع أن يتحدث عن أهميتها ، وفضلها ، ويسوق الأدلة الشرعية
على ذلك ؛ ثم يُثَنِّيْ بعناية السلف بها ، ومحافظتهم عليها ، وذمهم من يتخلف
عنها ؛ وبعد ذلك يقف عند هذا الحد ، واللبيب يفهم الإشارة ، وفي التلميح ما
يغني عن التصريح ، وهذا لا يعني بالضرورة عدم الحديث عن الخطأ أو مجاملة الناس
، لكن هذا شيء ، وما نفعله أحياناً شيء آخر .
2-
وصف الأخطاء والتحذير منها دون العمق في تحليل أسبابها ، والتفتيش عن مكمن
الضعف . فقد أصبح الشعور بالخطأ مشتركاً لدى الأغلب ، لكنهم ينتظرون برنامجاً
عملياً ، وخطوات واقعية . ومن ذلك الحديث المجرد عن الموت والقبر دون ربط ذلك
بالواقع . ويشير ابن القيم -رحمه الله- إلى شيء من ذلك ، فيقول : " وكذلك كانت
خطبته ، إنما هي تقرير لأصول الإيمان ، من الإيمان بالله ، وملائكته وكتبه ،
ورسله ولقائه ، وذكر الجنة والنار ، وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته ، وما
أعد لأعدائه وأهل معصيته ، فيملأ القلوب من خفته إيماناً وتوحيداً ، ومعرفة
بالله وأيامه ، لا كخطب غيره التي إنما تفيد أمراً مشتركاً بين الخلائق ، وهي
النوح على الحياة ، والتخويف بالموت ، فإن هذا أمر لا يحصل في القلب إيماناً
بالله ، ولا توحيداً له ، ولا معرفة خاصة به ، ولا تذكيراً بأيامه ، ولا بعثاً
للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه ، فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدة ؛ غير
أنهم يموتون ، وتقسم أموالهم ، ويبلي التراب أجسامهم ، فليت شعري أي إيمان حصل
بهذا ؛ وأي توحيد وعلم نافع حصل به ؟ ! " [13] .
3-
النقد الشخصي والتصريح بالأسماء ، فهذا خلاف هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -
الذي كان كثيراً ما كان يقول : " ما بال أقوام يفعلون كذك وكذا " . أو الغلو
والإيغال في التعمية ، فالمنكرات الظاهرة العامة يجب أن تنكر صراحة .
4-
مدح من لا يستحق المدح ، والثناء عليه ، كما في بعض المواقف والمشاريع التي
يدرك الجميع أنها غير صادقة ، وغير جادة ، أو كانت جادة ؛ لكن الخطيب لا يستطع
أن يقول كل شيء ، فلا يستطيع الانتقاد وبيان الخطأ ، فلا يسوغ له الاقتصار على
الثناء ؛ لأنه يتضمن التزكية عند الناس ، أما ما يقوله البعض من أن هذا شهادة
للمحسن بإحسانه ؟ فهذا مطلوب لكن حين يستطيع أن يشهد بالإساءة والإحسان ، أما
حين تكون الشهادة بالإحسان وسيلة لطمس الحقائق ؛ والتلبيس على الناس ، فهذا أمر
مرفوض .
5-
تأثر الخطيب بعمله الوظيفي . فحين يكون مدرساً يتحدث كثيراً عن الإجازات ،
والامتحان ، وبدء العام ، وهكذا مَنْ يعمل في ميدان الاحتساب ترى معظم خطبه
تدور حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعن المنكرات المتفشية في
المجتمعات ، وهذه أمور مطلوبة ؛ لكن هذا شيء وكونها سمة غالبة على الخطيب شيء
آخر .
ثامناً : مقترحات للخطيب :
لعلنا نقترح هاهنا بعض المقترحات للخطيب على أمل أن تساهم في إفادته ، ورفع
مستوى خطبته :
1-
اللقاء بالخطباء في الحي ، والتنسيق معهم ، والاستفادة المشتركة من المعلومات ،
ووجهات النظر ، مما يختصر عليهم كثيراً من الوقت .
2-
وضع صندوق للمقترحات ؛ يشمل موضوعات للخطبة ، وانتقادات ، ومعلومات عن ظاهرة
معينة ، ليكون هذا الصندوق حلقة وصل بين الخطيب والمصلين ، وقناة للتفاهم بينهم
.
3-
اللقاء ببعض فئات المجتمع كالمدرسين ، والطلاب ، والعمال ، والأطباء ، والقضاة
، والعسكريين ، فيستفيد من إطلاعهم على جوانب في المجتمع قد لا يطلع عليها ،
ومن التعرف على مشاكلهم ، والتي تمثل عينة من مشكلات يعاني منها الكثير من
زملائهم ، إلى غير ذلك مما يفتح للخطيب قنوات أكثر مع المجتمع .
4-
الاستفادة من بعض المصلين ، فقد يصلي مع الخطيب أحد طلبة العلم ، أو المثقفين ،
أو ممن يمكن أن يستفيد منه ، انتقاداً ، واقتراحاً ، ومعلومات ؛ إلى غير ذلك .
5-
وضع " أرشيف " شخصي ، ينظم له معلوماته ، ويمكن أن ينسق مع غيره من الخطباء
لتبادل الخبرة ، والمعلومات .
6-
الخطيب هو الرجل الوحيد الذي لا يسمع خطبة الجمعة ، ولعله حين يحرص على سماع
الأشرطة المسجلة لمشاهير الخطباء يستفيد كثيراً .
7-
القراءة في الكتب المؤلفة في الخطابة وفنها .
8-
الترجمة للخطبة إذا كان في المسجد جاليات
أعجمية .
تاسعاً : هل سألت نفسك هذا السؤال ؟
ماذا حققت من خلال الخطابة خلال مدة اعتلائك المنبر . هل صححت أخطاء تربوية ؟
هل قمت بحل مشاكل اجتماعية ؟ هلى ساهمت في تعليم الناس أصول العقيدة ، والأحكام
التي يحتاجونها في حياتهم ؟
إن هذا السؤال لا يعني فشلك ، أو اتهامك بالتقصير . لكنه سؤال يجب أن تطرحه على
نفسك باستمرار مدى قيامك بهذه الأمانة ، ورعايتها .
-------------------------------------
(1) المبكر وزناً ومعنى .
(2) متفق عليه من حديث أبي هريرة .
(3) رواه البخاري (877) ، ومسلم (844 845) كلاهما عن حديث ابن عمر .
(4) متفق عليه من حديث أبي هريرة .
(5) متفق عليه من حديث أبي هريرة .
(6) انظر : ( خطبة الجمعة والاتصال بالجماهير ) لمحي الدين عبد الحليم ص (160)
فما بعدها .
(7) فن الخطابة ، مع ملاحظة أننا نوافقه على أصل الفكرة دون تفاصيلها .
(8) رواه أحمد وأبو داود (5005) ، والترمذي (2857) .
(9) رواه مسلم (2670) وأبو داود (4608) .
(10) جامع الأصول (11/733) .
(11) صفر 1377 هـ .
(12) مجلة لواء الإسلام (شوال 1396ه) .
(13) زاد المعاد (1/423) .