حتى نستفيد من خطبة الجمعة

محمد بن عبد الله الدويش


ما أحوج الدعاة إلى التأمل في مجالات الدعوة ، ووسائل مخاطبة الجماهير ، والسعي إلى توسيع دائرة المخاطبة ، والتحدث للجميع وإسماع رسالتهم للكل . إن مراجعة الدعاة لوسائلهم الدعوية ، وأساليبهم مطلب ملحّ ، وواجب تمليه ضرورة الدعوة ذاتها .
وإن من الوسائل التي يمكن للدعاة أن يخاطبوا فيها الجميع ، ويبلغوا رسالتهم للناس كافة ، (خطبة الجمعة) فأي قدر حظي به هذا المنبر ، وهذه الوسيلة من الدراسة ، والعناية ، فضلاً عن التوظيف العملي لهذه الوسيلة .
وهذه محاولة لوضع إضاءات ، وإشارات حول هذا الموضوع الملحّ .

أولاً : أهمية خطبة الجمعة :
1- الأمر بالسعي لها ، فإن المسلم مأمور بالسعي لصلاة الجمعة حين يسمع النداء ، ويحرم عليه أن ينشغل ببيع أو نحوه . قال تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [ [الجمعة 9] . وهو في الوقت نفسه يحض على التبكير إليها كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( مَثَلُ المهجر [1] كمثل الذي يهدي بدنه ، ثم كالذي يهدي بقرة ، ثم كالذي يهدي الكبش ، ثم كالذي يهدي الدجاجة ، ثم كالذي يهدي البيضة ) [2] . ويؤمر بالتهيؤ النفسي لها فيؤمر بالتطيب والاغتسال والسواك .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من جاء منكم الجمعة فليغتسل ) [3] .
2- وحين يحضر المصلي للجمعة يلزمه الإنصات للخطيب ولا يجوز له الكلام ولو أن يقول لصاحبه صه . ( إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة :
أنصت فقد لغوت ) [4] . فهذا المصلي الذي أوجب عليه السعي للجمعة ، وحُث على التبكير لها ، والتغسل والتطيب ، وحُرّم عليه الكلام حال الخطبة ، من حقه أن يعتني بهذه الخطبة التي تقدم له .
3- خطبة الجمعة لها شأن عظيم عند الله -عز وجل- فهي ذكر لله كما سماها الله في كتابه ، وهي شعيرة من شعائر الدين ، تشهدها الملائكة ، كما قال -صلى الله عليه وسلم- : ( إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون من جاء من الناس على قدر منازلهم ، فرجل قدم جزوراً ، ورجل قدم بقرة ، ورجل قدم شاة ، ورجل قدم دجاجة ، ورجل قدم عصفورا ، ورجل قدم بيضة ، فإذا أذَّن المؤذن ، وجلس الإمام على المنبر طووا الصحف ودخلوا المسجد يستمعون الذكر ) [5] .
إن هذا الحديث يلقي ظلالاًً من الهيبة والجلال على هذه الخطبة ، وفي الوقت نفسه يعطي الخطيب شعوراً بأهمية الكلمة التي يقولها من على المنبر فعلاوة على كل ما فيها من قيمة دعوية ، فإن الملائكة الكرام يسمعونها ، فليت الذين يوظفون خطبهم لتحقيق مصالح فلان أو علان يفقهون هذا الحديث .
4- شهود المسلمين جميعهم لها . فالمسلمون على اختلاف طبقاتهم ، ومستوياتهم التعليمية ، يحضرون هذه الصلاة ويشهدونها . فيحضرها المثقف ، والجاهل وطالب العلم ، والمتعلم . ويحضرها الكبير والصغير ، ومن جانب آخر فحضورها ليس مقصوراً على الأخيار وحدهم ، فكثير ممن لا يشهد صلاة الجماعة يحضر الجمعة ، وهذا يتيح للخطيب أن يخاطب الجميع ، وأن يتحدث للكثير ممن لا يحضرون المحاضرات والندوات ، ودروس المساجد . إنها باختصار هي المجال الوحيد المتاح للدعاة والذي من خلاله يتحدثون مع الجميع .
5- تكررها كل أسبوع . ففي العام الواحد يستمع المصلي لـ (52) خطبة ، وحين يعتني بها الخطيب ويرتب موضوعاتها يقدم للمستمع مادة متكاملة . إنها تمثل دورة مكثفة مستمرة .
6- قيمتها المعنوية عند الناس وتأثيرها ، ففي بحث عن أثر خطبة الجمعة أجري في مصر أفاد 78% أنهم يتأثرون تأثراً دائماً بما يقوله الخطيب ، وذكر 71 % أنهم يلتزمون دائماً بما يقوله الخطيب . واتفق مع أحد خطباء المساجد على أن يخطب عن الربا ، فأجرى استفتاء قبل الخطبة وبعدها ، كانت النتيجة :
أ- 85% كانوا يعرفون المفهوم الصحيح للربا . وبعد الخطبة ارتفعت النسبة إلى 97% .
ب- 33% كانوا يعرفون عقوبة المرابي . وبعد الخطبة ارتفعت النسبة إلى 59% .
ج- 71% كانوا يعلمون أن البنوك المصرية تتعامل بالربا . وبعدها ارتفعت النسبة إلى 94% .
د- 50% كان يفضل الاستثمار في البنوك الإسلامية . وبعد الخطبة ارتفعت النسبة إلى 64% .
هـ- نتيجة الخطبة : 34% سينصحون الآخرين بترك الربا . 31% سيقاومون أي عمل ربوي [6] .
إن هذه الدراسة وغيرها تعطي دلالة صادقة أن خطبة الجمعة لها تأثيرها على المصلين ، وذلك حين يجدون الخطيب المؤثر .
7- حضورها يزيد ولا ينقص . فالمصلون لا يخرج منهم أحد قبل انتهاء الخطبة ، إنما يتوافدون ، بخلاف المحاضرة والدرس ، فقد يخرج بعضهم قبل اكتمال الموضوع . ومع اقبال الناس على الخير في هذه الفترة ، يتوافد الكثير من المسلمين إلى الجمعة ممن كانوا لا يعرفونها قبل ذلك .
8- ثباتها في كافة الأحوال ، فهي مستمرة في السلم والحرب ، وفي القحط والجدب ، وفي سائر الظروف .
ومع ذلك كله رغم مدى عنايتنا بهذا المنبر ، وشعورنا بأهميته ، والحرص على أن يصعده الدعاة الصادقون ، وطلبة العلم الواعون ؟
والخطباء أنفسهم أمام مدى إدراكهم لهذه الرسالة وقيمتها وأهميتها ؟ أليست خطبة الجمعة تستحق منا عناية ودراسة لاستثمارها ، وأساليب تطويرها ؟ ولم لا تتلقى المراكز والمؤسسات الإسلامية دورات وبرامج لإعداد الخطباء وتدريبهم ، والرفع من مستواهم ؟ إنها تساؤلات آمل أن تلقى عناية إخواننا .

ثانياً : الموضوع :
1- أن يختار الموضوع في وقت مبكر ، فإن تأخير اختيار الموضوع ، إلى ليلة الجمعة وربما يومها ، يؤدي بالخطيب ، إلى أن يقرر أي موضوع يخطر في باله ، وربما لا يكون مقتنعاً به القناعة التامة ، إضافة إلى أنه لا يترك له فرصة كافية للتحضير والتفكير في عناصر الموضوع ومحاوره . ويعاني الكثير من الخطباء من هَمِّ اختيار الموضوع ، فيُقترح إعداد قائمة متنوعة من الموضوعات ، يختار بعد ذلك من بينها .
2- التفكير الجيد في الموضوع بل وطول التفكير فيه - وهذا يستوجب الاختيار المبكر له - يقول ( دايل كارنيجي ) في كتابه (فن الخطابة) : ( حدد موضوعك مسبقاً حتى يتسنى لك الوقت للتفكير به مراراً . فكر به طيلة سبعة أيام ، واحلم به طيلة سبعة ليال ، فكر به أثناء خلودك إلى الراحة ، وفي الصباح وأنت تستحم ، وفي طريقك إلى المدينة ، أو بينما تنتظر المصعد ، وعندما تكوي الثياب ، أو حين تطهو الطعام ، وناقشه مع أصدقائك واجعله موضوع حديثك ، واسأل نفسك جميع الأسئلة الممكنة التي تتعلق به ) [7] .
3- أن يكون الموضوع عن قناعة لا تمليها ضغوط الشارع ، أو المناسبة ، أو جهة معينة . مع الترفع عن الإثارة العاطفية .
4- التنويع في الموضوعات والمجالات وعدم التركيز على جانب واحد .
فينبغي أن تشتمل موضوعات الخطيب الحديث عن مشاكل الناس الاجتماعية ، وحلولها ، وعلى بيان واقع الأمة ، والمؤامرات عليها ، وعلى الحديث عن الأخطاء المتفشية بين الناس ، وعلى بيان العقيدة وتعليمها للناس ، وعلى بيان ما يحتاجه الناس من أحكام عباداتهم ومعاملاتهم ، وعن الرقائق والوعظ ، وتذكير الناس ؛ وباختصار ينبغي أن تشمل على كل ما يحتاج المسلم أن يعرفه في شؤون حياته .
وقد تجد البعض من الخطباء يركز على جانب الوعظ دون سواه ، والآخر على الجانب السياسي ، والثالث على الجوانب الاجتماعية .. وهكذا .
إن هناك فئة غير قليلة من المسلمين لا يتلقون العلم إلا من خلال خطبة الجمعة ، وإن تحقيق التكامل والتنوع في موضوعات الخطبة يهيئ لهؤلاء حَدّاً أدنى من الثقافة الشرعية .
5- التحضير الجيد والمتكامل للموضوع ، من خلال القراءة والاطلاع على ما كتب في الموضوع حديثاً وقديماً ، وإن ترتيب الخطيب لملفاته وأوراقه ، وتدوين ما يمر بباله من عناوين لكتب ، أو مقالات ، أو موضوعات ، أو تقارير مما يعينه على ذلك . إن المنبر أمانة ، والمصلون ينتظرون أن يسمعوا الجديد من الخطيب ، ومهما كانت ثقافة الخطيب وإطلاعه ، فإنه لا يستغني عن المراجعة والإعداد ، والترتيب لموضوعه ، ومن الظلم للمصلين ، وإهمال الأمانة ، أن يحدد الخطيب موضوعه متأخراً ، ولا يعد له فيجيء مهلهلاً متنافراً .
وفي حادثة السقيفة المشهورة قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - (فزورت في نفسي مقالة ) . قال البعيث الشاعر - وكان من أخطب الناس - : (إني والله وما أرسل الكلام قضيباً خشيباً ، وما أريد أن أخطب يوم المحفل إلا بالهائت المحكك ) . وكان ابن النوام الرقاشي إذا دُعي للكلام ولم يكن مهيئاً نفسه يقول : ( ما اشتهي الخبز إلا بائتاً ) .
6- أن يكون الموضوع حول واقع الناس ، وما يحتاجون إليه ؛ فالعالم الإسلامي اليوم يموج بأحداث ساخنة ، ومضطربة ، والعقل المسلم يعاني من تحليلات الإعلام المضلل الذي يصور القضايا وفق ما يريد فلان ، أو غيره ؟ ولذا فإن المصلي ينتظر أن يسمع الكلمة الصادقة ، وعرض القضية من هذا الخطيب الذي يثق فيما يقول لأنه يعرف أنه يدرك أمانة الكلمة ، ومسؤليتها .
وثمة طائفة من المسلمين لا تتفاعل مع قضايا الساحة ، ولا تُعيرها أي اهتمام ، فلها شأن آخر مع شهوات النفس ورغباتها ؛ وهذه الفئة تحتاج لمن يغرس فيها التفاعل مع قضايا المسلمين ، والاهتمام بها ، وأقرب الناس ، وأقدرهم على ذلك هو خطيب الجمعة . ومن الجوانب التي تمسّ الناس ، ما قد يحصل من قضايا ، وإشاعات ، وأخبار أو ظواهر متفشية ، إلى غير ذلك مما يخصّ بلداً معيناً ، فينبغي للخطيب أن تكون له فيه كلمته .
وحين يتحدث الخطيب عن هذه القضايا ، لا ينبغي أن يفرط في التحليلات السياسية ، والاجتهادات الخاصة ، والتي هي عرضة للخطأ والصواب ، إنما يركز على بيان وجه القضية ، والأخبار الصادقة عنها ، والمنهج الشرعي في التعامل معها .
7- مناسبة الموضوع المصلين ، فالمسجد الذي يؤمه كثير من غير أهل البلد قد لا يناسب التحدث فيه عن مشاكل اجتماعية خاصة بهذا البلد ، والمسجد الذي أكثريته من الطلاب غير المتزوجين ليس من الحكمة أن يتحدث الخطيب فيه عن المشاكل الزوجية ، ومسجد القرية والبادية لا يستحسن الحديث فيه عن قضايا تخص النخبة المثقفة . فعلى الخطيب أن يدرك طبيعة المصلين ، وتركيبتهم ، ويختار لهم ما يناسبهم ، وما يحتاجون إليه .
8- العمق العلمي في الموضوع ، فلا يكفي أن يقتصر الموضوع على عبارات إنشائية ، أو خواطر وأفكار شخصية ، وإن العناية بالاستشهاد بالنصوص الشرعية ، وأقوال أهل العلم ، والعناية بالتأصيل العلمي للموضوع يعطي المستمع الثقة ، والقناعة بما يطرح .
9- دقة المعلومات والتأكد من صحتها ومن ذلك :
أ- الأحكام الشرعية : ببحثها بحثاً دقيقاً وتأصيلها .
ب- الأحاديث النبوية : وذلك بالتأكد من صحتها وثبوتها ؛ لذا فعلى الخطيب أن يتعرف على طريقة التعامل مع كتب الحديث ليتسنى له الوقوف على ما قاله أهل العلم في درجة أي حديث يود الاستشهاد به .
ج- الإخبار : فلا يليق بالخطيب أن يتلقف أية إشاعة ، أو خبر ليكون مادة لخطبته ، بل يثبت ويتبين .
د- القضايا العلمية والمتخصصة : قد يتطرق الخطيب للحديث عن بعض الجوانب الطبية ، أو التخصصية في أي فن ؛ وحين يتحدث الرجل بغير فنه يأتي بالعجائب ، فعليه أن يتأكد من صحة المعلومات ، فقد يكون ضمن المصلين أحد المختصين بما يتحدث عنه ، فيسمع الغرائب .
10- مناسبة الموضوع للمقام والزمن : فقد خطب أحد الخفاء ، في إحدى عواصم الدول الإسلامية عن ليلة القدر يوم الثلاثين من رمضان ؛ وليس هناك أمل بإدراك هذه الليلة . أو يكون هناك حدث يعني الأمة كلها ، وينتظر المصلون الخطبة ليستمعون رأي خطيبهم في ذلك ، فيفاجؤون به يتحدث عن قضية اجتماعية ، أو قضية لا تمت بصلة لما هم فيه .
11- الوحدة الموضوعية ، فلا يسوغ أن تكون الخطبة خليطاً متنافراً من القضايا والموضوعات ، ومليئة بالاستطرادات المناسبة وغير المناسبة .
12- تناسق الأفكار وتسلسلها .

ثالثاً : الأسلوب :
1- حسن الأسلوب وجودته فالألفاظ قوالب المعاني .
2- وحسن الأسلوب وجودته لا يعني أن يتكلف الخطيب فيقع فيما نُهي عنه ] قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ومَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ [ [ص 86] . وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن التكلف ، والتفاصح صفة مذمومة يبغضها الله -عز وجل- فقال : ( إن الله يبغض البيلغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها ) [8]. وقال أيضاً : (هلك المتنطعون)[9] قال ابن الأثير : التنطع في الكلام : التعمق فيه والتفاصح [10] . ومن ذلك قول أحدهم : ( لقد فاحت رائحة الشمس ، فعطرت وجنات القلوب ، وتركت قطرات الندى الإيماني الأبيض على شفاه الخفقات الدافئة في الصدور ) .
3- الاعتماد على الحجج العلمية المنطقية ، وعدم إلقاء النتائج مباشرة . فإن الخطيب لم يعد المتعلم الوحيد ولا فريد عصره ، أو نسيج دهره .
4- تجنب النقد اللاذع والعبارات الجارحة ، والتركيز على الأخطاء ، والحكمة في معالجة الخطأ .
5- الاعتدال وعدم المبالغة . خَطَبَ أحد الخطباء عن الفتيات وخروجهن ليلاً ، وطالب الآباء أن يقوم أحدهم منتصف الليل ليتأكد من وجود ابنته على سريرها ؛ فخرج المصلون وهم يمقتون مثل هذه المبالغة . ونموذج آخر ذكره الشيخ عبد اللطيف السبكي في مجلة الأزهر [11] وذلك أن خطيباً خطب في جامع الأزهر عن حديث " واتبع السيئة الحسنة تمحها " فهَوَّن أمر المعصية ، وأن الله فطر الناس عليها وقال بالحرف الواحد : ( إن الله لم يقل للناس لا تسيئوا ، ولكن قال إذا أسأتم فاستغفروا ) . إنه لا يسوغ أن تمتلك الخطيب عاطفته الجياشة فيتحدث بمبالغة دون اعتدال أو إنصاف ؛ بل إن المبالغة تؤدي إلى نتائج معاكسة .

رابعاً : الأداء :
1- الصوت : فينبغي العناية بوضوح الصوت والتأكد من الأجهزة التي تنقل الصوت ، إضافة إلى التحكم في صوته هو ، ورفعه وخفضه في المكان المناسب ، وأن يعتني بسلامة إخراج الحروف .
2- تصوير المعاني بالنطق ، ففي حالة الاستفهام ينتظر الجواب ، وهكذا في حالة التعجب .
3- حسن الوقوف ، فيراعي المعاني وتمامها عند وقوفه .
4- الحماسة ، والعاطفة الحية التي يشعر المصلي من خلالها أن الخطيب يحمل الفكرة في عروقه ودمائه ، وليست مجرد كلمات هامدة ، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب علا صوته ، واحمر وجهه كأنه منذر جيش يقول : صبحكم ومساكم .
5- رباطة الجأش ، والتعود على ذلك .
6- سلامة اللغة وعدم اللحن ، وقد كان السلف يعتنون باللغة وسلامتها ، وكان اللحن مما يعاب به على المرء فضلاً عن طالب العلم ، وليس ثمة ما يعيب الخطيب ، أو ينقص من قدره ، أن يدرس مبادئ النحو ، أو يبحث عمن يقرأ عليه فيصحح قراءته . قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- : " تعلموا الفرائض واللحن اللغة والنحو فإنه من دينكم " . ويمكن أن يلجأ إلى حل مرحلي بأن يشكل الكلمات التي يرى أنه عرضة لأن يخطئ بها .

خامساً : بين الارتجال والخطبة من ورقة :
أولاً : نود الإشارة إلى أن هنالك فرقاً بين الارتجال في المصطلح المعاصر ، وعند العرب ، فهو لدى العرب الخطبة من غير إعداد واستعداد ، ولم يكونوا يعرفون الخطبة من الورقة أصلاً ؟ أما في المصطلح المعاصر فيقصد به الخطبة دون ورقة ، ولو أعد الخطيب لتلك الخطبة .
فالارتجال بمعناه عند العرب لا ينبغي أن يسلكه الخطيب فيصعد المنبر ، ويفكر في موضوع الخطبة أثناء الآذان ، أو يفكر وهو في الطريق إلى المسجد ، ومهما علت مكانة الخطيب ، واتسع علمه ، فلا يستغني عن الإعداد والتحضير المسبق ، لكن ما يكثر عنه السؤال ، ويدور حوله النقاش ، أيهما أولى : أن يخطب الخطيب من ورقة ، أو من دون ورقة مع التحضير والإعداد المسبق . والموضوع يحتاج لتفصيل تضيق عنه هذه المقالة لكننا نسجل بعض الملحوظات :
1- الناس يختلفون ويتفاوتون في ذلك .
أ- فبعضهم يحتاج للورقة لتضبط ألفاظه ، فلا يشطح ، ويقول ما يُحسب عليه ، أو تضبط له موضوعه فلا يتشتت به الحديث يمنة ويسرى ، وينسى موضوعه ، أو يضبط له وقته فلا يطيل على الناس .
ب- والبعض يحتاج لرؤوس الأقلام ، والنصوص .
ج- والبعض لا يحتاج لذلك ، ويستطيع أن يستوعب موضوعه ، ويضبط ألفاظه ، ووقته . فإذا كان كذلك فهذا أدعى للتأثير على الجمهور وجلب انتباههم .
2- من لا يجيد الارتجال يستطيع التعود ، بالتدرج ؛ وأفصح الناس قد ولدته أمه وهو لا يجيد النطق بحرف واحد .
3- ليس بالضرورة أن يجعل الخطيب الخطبة دون ورقة هدفاً له ، فقد يخطب من خلالها ، ويفيد الناس ، ويحقق المقصود .

سادساً : بين الإيجاز والتطويل :
الإيجاز هو السنة . روى مسلم في صحيحه عن أبي وائل قال خطبنا عمار فأوجز وأبلغ ، فلما نزل ، قلنا يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت فلو كنت تنفست ، فقال إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئنة من فقهه ، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة وإن من البيان سحراً " .
وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال : ( كنت أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكانت صلاته قصداً ، وخطبته قصداً ) .
وقال أبو بكر -رضي الله عنه- ليزيد بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - حين أمّره على جيش إلى الشام : " وإذا وعظتهم فأوجز فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضاً " .
وها نحن نرى في عصرنا من يطيل الخطبة حتى يُملَّ الناس . ذكر اللواء محمود شيت خطاب أنه صلى مع خطيب في القاهرة استمرت خطبته ساعة وعشر دقائق ، مع اللحن والخطأ في الآيات ، والأحاديث ، والشعر [12] .
الإيجاز والتطويل نسبي وقد يتطلب الموضوع أحياناً قدراً من الإطالة ، أو طبيعة المستمعين . أو من الخطيب ؛ كأن يفد غريب وهو ممن يحب الناس سماع كلامه ؛ فمثل هذه المواقف قد تسوغ فيها الإطالة ويبقى بعد ذلك الإيجاز هو الأصل ، فالإيجاز يزيد مسؤولية الخطيب ؛ إذ سيحتاج لعرض جملة من الحقائق والمعلومات في وقت يسير . وليس صحيحاً أن التحضير يتناسب طردياً مع وقت الخطبة .

سابعاً : أمور لابد من اجتنابها :
أ- التركيز على سلبيات المصلين ، والحديث عن أخطائهم ، أو استعمال ضمير المخاطب كثيراً ، وهذا مثل الطبيب الذي يحدث المريض عن مرضه ويبالغ في وصفه وخطورته ؛ إن التركيز على مثل هذا الأسلوب من شأنه أن يحطِّم كل جوانب الأمل لدى المصلي ، مما يجعله يشعر أنه لا يمثل إلا مجموعة من الأخطاء والعيوب ، ومع كثرة النقد وبيان الأخطاء يتلبد إحساسه ؛ فيشعر أن الخطأ أمر طبيعي لا يمكن أن يفارقه . أو أن يشعر أن هذا الخطيب لا ينظر إلا بعين واحدة ، فينصرف عن سماع ما يقول .
إن الخطيب الناجح يستطيع أن يحقق المقصود ، ويعالج الخطأ دون حاجة للانتقاد المباشر للناس ، فحين يتحدث عن إهمال الناس لصلاة الجماعة مثلاً ؛ بإمكانه بدلاً من النقد اللاذع أن يتحدث عن أهميتها ، وفضلها ، ويسوق الأدلة الشرعية على ذلك ؛ ثم يُثَنِّيْ بعناية السلف بها ، ومحافظتهم عليها ، وذمهم من يتخلف عنها ؛ وبعد ذلك يقف عند هذا الحد ، واللبيب يفهم الإشارة ، وفي التلميح ما يغني عن التصريح ، وهذا لا يعني بالضرورة عدم الحديث عن الخطأ أو مجاملة الناس ، لكن هذا شيء ، وما نفعله أحياناً شيء آخر .
2- وصف الأخطاء والتحذير منها دون العمق في تحليل أسبابها ، والتفتيش عن مكمن الضعف . فقد أصبح الشعور بالخطأ مشتركاً لدى الأغلب ، لكنهم ينتظرون برنامجاً عملياً ، وخطوات واقعية . ومن ذلك الحديث المجرد عن الموت والقبر دون ربط ذلك بالواقع . ويشير ابن القيم -رحمه الله- إلى شيء من ذلك ، فيقول : " وكذلك كانت خطبته ، إنما هي تقرير لأصول الإيمان ، من الإيمان بالله ، وملائكته وكتبه ، ورسله ولقائه ، وذكر الجنة والنار ، وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته ، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته ، فيملأ القلوب من خفته إيماناً وتوحيداً ، ومعرفة بالله وأيامه ، لا كخطب غيره التي إنما تفيد أمراً مشتركاً بين الخلائق ، وهي النوح على الحياة ، والتخويف بالموت ، فإن هذا أمر لا يحصل في القلب إيماناً بالله ، ولا توحيداً له ، ولا معرفة خاصة به ، ولا تذكيراً بأيامه ، ولا بعثاً للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه ، فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدة ؛ غير أنهم يموتون ، وتقسم أموالهم ، ويبلي التراب أجسامهم ، فليت شعري أي إيمان حصل بهذا ؛ وأي توحيد وعلم نافع حصل به ؟ ! " [13] .
3- النقد الشخصي والتصريح بالأسماء ، فهذا خلاف هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان كثيراً ما كان يقول : " ما بال أقوام يفعلون كذك وكذا " . أو الغلو والإيغال في التعمية ، فالمنكرات الظاهرة العامة يجب أن تنكر صراحة .
4- مدح من لا يستحق المدح ، والثناء عليه ، كما في بعض المواقف والمشاريع التي يدرك الجميع أنها غير صادقة ، وغير جادة ، أو كانت جادة ؛ لكن الخطيب لا يستطع أن يقول كل شيء ، فلا يستطيع الانتقاد وبيان الخطأ ، فلا يسوغ له الاقتصار على الثناء ؛ لأنه يتضمن التزكية عند الناس ، أما ما يقوله البعض من أن هذا شهادة للمحسن بإحسانه ؟ فهذا مطلوب لكن حين يستطيع أن يشهد بالإساءة والإحسان ، أما حين تكون الشهادة بالإحسان وسيلة لطمس الحقائق ؛ والتلبيس على الناس ، فهذا أمر مرفوض .
5- تأثر الخطيب بعمله الوظيفي . فحين يكون مدرساً يتحدث كثيراً عن الإجازات ، والامتحان ، وبدء العام ، وهكذا مَنْ يعمل في ميدان الاحتساب ترى معظم خطبه تدور حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعن المنكرات المتفشية في المجتمعات ، وهذه أمور مطلوبة ؛ لكن هذا شيء وكونها سمة غالبة على الخطيب شيء آخر .

ثامناً : مقترحات للخطيب :
لعلنا نقترح هاهنا بعض المقترحات للخطيب على أمل أن تساهم في إفادته ، ورفع مستوى خطبته :
1- اللقاء بالخطباء في الحي ، والتنسيق معهم ، والاستفادة المشتركة من المعلومات ، ووجهات النظر ، مما يختصر عليهم كثيراً من الوقت .
2- وضع صندوق للمقترحات ؛ يشمل موضوعات للخطبة ، وانتقادات ، ومعلومات عن ظاهرة معينة ، ليكون هذا الصندوق حلقة وصل بين الخطيب والمصلين ، وقناة للتفاهم بينهم .
3- اللقاء ببعض فئات المجتمع كالمدرسين ، والطلاب ، والعمال ، والأطباء ، والقضاة ، والعسكريين ، فيستفيد من إطلاعهم على جوانب في المجتمع قد لا يطلع عليها ، ومن التعرف على مشاكلهم ، والتي تمثل عينة من مشكلات يعاني منها الكثير من زملائهم ، إلى غير ذلك مما يفتح للخطيب قنوات أكثر مع المجتمع .
4- الاستفادة من بعض المصلين ، فقد يصلي مع الخطيب أحد طلبة العلم ، أو المثقفين ، أو ممن يمكن أن يستفيد منه ، انتقاداً ، واقتراحاً ، ومعلومات ؛ إلى غير ذلك .
5- وضع " أرشيف " شخصي ، ينظم له معلوماته ، ويمكن أن ينسق مع غيره من الخطباء لتبادل الخبرة ، والمعلومات .
6- الخطيب هو الرجل الوحيد الذي لا يسمع خطبة الجمعة ، ولعله حين يحرص على سماع الأشرطة المسجلة لمشاهير الخطباء يستفيد كثيراً .
7- القراءة في الكتب المؤلفة في الخطابة وفنها .
8- الترجمة للخطبة إذا كان في المسجد جاليات أعجمية .

تاسعاً : هل سألت نفسك هذا السؤال ؟
ماذا حققت من خلال الخطابة خلال مدة اعتلائك المنبر . هل صححت أخطاء تربوية ؟ هل قمت بحل مشاكل اجتماعية ؟ هلى ساهمت في تعليم الناس أصول العقيدة ، والأحكام التي يحتاجونها في حياتهم ؟
إن هذا السؤال لا يعني فشلك ، أو اتهامك بالتقصير . لكنه سؤال يجب أن تطرحه على نفسك باستمرار مدى قيامك بهذه الأمانة ، ورعايتها .

-------------------------------------
(1) المبكر وزناً ومعنى .
(2) متفق عليه من حديث أبي هريرة .
(3) رواه البخاري (877) ، ومسلم (844 845) كلاهما عن حديث ابن عمر .
(4) متفق عليه من حديث أبي هريرة .
(5) متفق عليه من حديث أبي هريرة .
(6) انظر : ( خطبة الجمعة والاتصال بالجماهير ) لمحي الدين عبد الحليم ص (160) فما بعدها .
(7) فن الخطابة ، مع ملاحظة أننا نوافقه على أصل الفكرة دون تفاصيلها .
(8) رواه أحمد وأبو داود (5005) ، والترمذي (2857) .
(9) رواه مسلم (2670) وأبو داود (4608) .
(10) جامع الأصول (11/733) .
(11) صفر 1377 هـ .
(12) مجلة لواء الإسلام (شوال 1396ه) .
(13) زاد المعاد (1/423) .


المصدر : مجلة البيان
 

المفكرة الدعوية

www.dawahmemo.com